في ضيافة عم جرجس

0 ثانية
0
0
127

ياسر الغرباوي

قادني البحث عن تاريخ بلدتي الحبيبة التي بها مسقط رأسي إلي طرق أبواب معرفية شتى لعلها تسعفني في تكوين ذاكرة تاريخية عن المدنية التي ُيحكي لنا أن لها صولات وجولات في التاريخ الفرعوني والمسيحي والإسلامي كشأن كثير من القرى والمدن المصرية القديمة، ففي تاريخ البلدة الفرعوني وجدت شذرات متناثرة في بعض الكتب عن طبيعة الآلهة الفرعونية التي كانت موجودة في البلدة وفي تاريخها الإسلامي وجدت إشارات لطيفة عن دورها في دعم جهاد قطز والظاهر بيبرس ضد التتار،وبقيت الحقبة المسيحية لتاريخ البلدة فارغة في ذهني لا أجد فيها لا إشارات ولا شذرات ،فقررت أن أطرق باب عم جرجس أحد القائمين على خدمة الكنسية في البلدة ليساعدني في مليء هذه الفجوة المعرفية عن تاريخ البلدة القديمة . فعم جرجس المتعلق بالكنسية تعلق الطفل بأمه كشف لي في هذه الزيارة عن حقيقتان لا أعرفها عنه الأولي : هي كونه باحث عميق في تاريخ المدنية المسيحي وله إصدار قيم عن هذه الفترة التاريخية للمدنية وما وقع فيها من أحداث وملاحم وخاصة ما يخص تاريخ الكنسية وتطورها ، وقد حكي لي طرفاً منها وكيف أن أهل البلدة صمدوا في وجه الاضطهاد الروماني للمسيحيين المصريين وذكر أن في الكنسية مقام لأحد الرهبان الذين استشهدوا في فترة ما يعرف( بعصر الشهداء في التاريخ المصري) ثم عرج بي علي تاريخ البلدة وما حدث فيها من تغيرات مع مقدم عمرو بن العاص لمصر وكيف ساهم قدومه في رفع القهر والاضطهاد عن سكان البلدة، وحكي لي روائع عن روح التسامح والتآلف التي سادت تلك الفترة وكيف أن بيوت البلدة أصبح فيها عائلات ترفرف بجناحان احدهما مسيحي والأخر مسلم؛ فتجد عائلة الأب فيها استمر على مسيحيته والأبناء اختاروا الإسلام والعكس، وكل ذلك تم في ظلال من التسامح والتعايش وختم مساعدته في هذا الجانب بتزويدي بعنوان كتاب قيم في دار الكتب المصرية يُحوى تفاصيل أكثر عن جغرافية و تاريخ المدنيةالقديمة .و الحقيقة الثانية التي كُشفت في هذه الزيارة هي كون عم جرجس كان ضابطا احتياطياً في الجيش المصري، وشهد حرب السادس من أكتوبر و كان في الكتيبة التي أسرت العقيد احتياط عساف ياجوري قائد اللواء 190مدرع إسرائيلي، والذي كان يمثل أحد الشخصيات المهمة من الناحية العسكرية في الجيش الإسرائيلي، نظرا للموقع الاستراتيجي الذي كان مكلفا للعمل به والعمليات التي كانت موكلة إليه.ومما زاد هذه الحقيقة تجسدا للعين والقلب هو احتفاظ عم جرجس ببعض من حطام دبابة ذلك القائد الإسرائيلي في بيته وحرصه علي أن ألقي نظرة عليها ، وعند هذه الحقيقة وما أحاط بها عن عم جرجس أنفتق الحوار بينا نحو أفق أرحب وأوسع متجاوزاً تاريخ بلدتي الصغيرة و متجهاً نحو تاريخ أمه مصرية عظيمة تستمد بعض جوانب عظمتها من الحفاظ علي وحدتها الوطنية وقت الشدائد والمحن.وتجاذبنا أطراف الحديث الشائق والممتع بينيا في ظل كرم ضيافة عم جرجس وبشاشته، حتى توقفنا عند واقع المجتمع المصري المعاصر الذي تبدو عليه ظواهر تشنج طائفية تنذر بشرر مستطير في المستقبل إذا لم يتم معالجتها معالجة فكرية عالمة تنقي عالم الأفكار في عقول أجيالنا الصاعدة من مفخخات الأفكار الانقسامية والفتنوية القاتلة التي تبعث علي العداوة والبغضاء واضطهاد وإقصاء الأخر، وينبغي لهذه المعالجة أن تستلهم تاريخ الأمة المصرية المشرق في وحدتها وتكتفها ضد التحدىات الداخلية والخارجية عبر الزمن وفى نفس الوقت متذكرة دأب الخصوم الخارجين في سعيهم لتفكيك ذلك الترابط الوطني.وبعد طول حديث عن الأسباب والدوافع التي تقف خلف هذه التشنجات الطائفية المعاصرة خلاصنا مع العم جرجس إلي رباعية ذهبية ربما تساهم في تلطيف التشنجات الطائفية الطارئة على صفحة الحياة الوطنية المصرية الرقرقة والهادئة منذ فجر التاريخ وهي

:أولاً : ينبغي التعاطي مع التنوع الديني والطائفي في الساحة المصرية على انه نقطة قوة وتميز للنسيج الوطني المصري وليس نقطة ضعف وانكسار،فالتاريخ المصري القديم والمعاصر مملوء بصفحات مضيئة في هذا الإطار من التلاحم والتعايش الذي امتد طولاً حتى انتظم كل جوانب الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وامتد عمقا ً حتى وصل لساحة الفنون والآداب وفن العمارة ،فمن الحقائق التاريخية أن الأثر المعماري البديع والرائع القابع في مصر القديمة (مسجد أحمد بن طولون ) اشرف على تصميمه وبناءه المهندس سعيد بن كاتب الفر غاني أحد أمهر المهندسين المسيحيين المصريين في تلك الحقبة التاريخية ، فالحضارة الإسلامية كما عبر عنها الدكتور جمال حمدان تكونت عبر المعادلة الثقافية التالية (مبادئ الإسلام + حضارة البلدان المفتوحة = الحضارة الإسلامية وبالتالي فبناء الحضارة الإسلامية شارك فيها غير المسلمين بنصيب وافر وزاخر مما وفر لها مساحة من الإبداع والتميز وأعطاها أبعادا إنسانية مميزة وكان للحاضرة المصرية حظاً وافراً في هذا الباب .

ثانيا : ينبغي معالجة قضايا وحدة النسيج الاجتماعي المصري بعيداً عن مصطلح الأقلية والأغلبية المفخخان اللذان تبرز منهما رائحة الشقاق والعداء لدلالاتهما الخطيرة ومنها :أ – مصطلح الأقلية: مصطلح مستفز لكل من الأقلية والأغلبية على حد سواء وُيصيب العقل الجمعي للمجتمع بما يشبه الصدمة النفسية ، مثلما تجد شابا مفتول العضلات وسيم القسمات في كامل صحته وعافيته ،فجأةً تجد من يهمس في أذنيه دون سابق معرفة، ويقول له انتبه كان لي صديق شاب مثلك لكنه توفى بالفشل الكلوي وهو في مثل سنك!! ، فهذه الهمسة التي يبدو عليها الحرص والأمانة ربما تُدخل هذا الشاب في غياهب من الشكوك والهواجس!! حتى يتأكد أن الكُلى عنده تعمل دون خلل!! . فعندما يسمع المجتمع مصطلح الأقلية ينقدح في ذهنه أنه منقسم لأغلبية وأقلية، وعلى الأقلية أن تسعى لتقويةمركزها وعلى الأغلبية ألا تفرط فى مكاسبها ، وبالتالي ينتقل لحالة من عدم الاستقرارفي علاقاته مع بعضه البعض . ب – مصطلح( الأقلية والأغلبية )مصطلح سياسيي يستخدم للتعبير عن نتائج انتخابية عادة تتسم بالصراع الحاد لكسب أصوات الناخبين ،وبالتالي ليس من الصحيح أن ُيستدعى مصطلح الأقلية في إطار الحفاظ على السلم الأهلي والنسيج الوطني . ج – الذاكرة التاريخية لمصطلح الأقلية أوالأقليات في العالم العربي والإسلامي مرتبطة بملف التدخل الخارجي فمصطلح الأقليات والعرقيات برز بشكل حاد في الفترات النهائية للخلافة العثمانية، وذلك عندما بدأت القوى الكبرى في تقسيم تركة الرجل المريض عبر العديد من الوسائل والتكتيكات من بينها الدخول إلى المنطقة العربية من نافذة رعاية بعض (الأقليات ) المهددة في العالم العربي!!ولكن قد يسأل سائل ما هو إذن المصطلح السليم الذي ينبغي أن نستعمله لكي نعبر به عن اختلاف وتنوع أطياف النسيج الوطني ؟؟ يقفز إلي الذهن فوراً مصطلح الجماعة الوطنية أو الجماعات الوطنية الذي يفيض بالعديد من الدلالات والإيحاءات الإيجابية الخلاقة عكس مصطلح الأقليات والأغلبية .

ثالثاً: ينبغي التفريق بين نضال جماعة وطنية تسعى نحو الاندماج والمساواة وثانية تسعي نحو الانفصال والانسلاخ عن جسد الوطن ،فالأولي يُسمع لها وتناقش قضاياها وتقدر طالما أن بوصلتها متوجه نحو الوحدة والتناغم والحفاظ على قوة وصلبة النسيج الوطني وتعبر جهودها بمثابة تدافع مجتمعي يساهم في اقتلاع الحشائش الضارة التي تحول دون ترعرع وتجسد الوحدة الوطنية على أرض الواقع وأما الثانية فينبغي التعاطي مع جهودها وأنشطتها بكل حذر وتأهب يحول دون تحقق أهدافها القريبة والبعيدة .

رابعا ً : لابد من إنضاج خطاب ديني (إسلامي/ مسيحي ) ينبع من الطبيعة الاجتماعية للشعب المصري ويراعي خصوصيته الحضارية والثقافية من حيث التنوع الديني وطبيعة النظام السياسي القائم فيها منذ آلاف السنين ، وينبغي لهذا الخطاب أن ينبذ الفتنة والشقاق ويدفع في اتجاه الوئام والوفاق ، فالفقيه المصري الليث بن سعد عندما سأله شاب عن حكم بناء الكنائس في مصر ؟؟ أجاب الليث إجابة مبدعة لا تقع في زاوية الحرام والحلال ،فقال للسائل يا بُني وهل بنيت الكنائس إلا في عهد عمرو بن العاص !! الذي رفع الاضطهاد عن المسيحيين وفتح لهم كنائسهم ليمارسوا شعائرهم بها .

هذه النقاط الأربع تمثل نقاط تلقي واتفاق بيني وبين عم جرجس ذلك الرجل الذي يعتز بوطنية والذي بذل لها عرقه ودمه في حرب العاشر من رمضان بجوار إخوانه المسلمين ،وهمس عم جرجس في أذني في أخر الزيارة وهو يودعني قائلاً لي أنه كان صائما يوم العبور المجيد مثل كثير من الجنود المصريين المسلمين ورفض أن يأكل الإ معهم، رسما بذلك لوحة بديعية في فن التسامح والتعايش ينبغي لها أن ترسو في وجدان الأجيال الصاعدة لعلها تكفكف من روح الفتنة البغيضة التي تنفث سمومها في بر مصر الأمان

عرض مقالات ذات صلة
Load More By ياسر الغرباوي
Load More In المحاضرات والندوات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

بامكانك الاطلاع على

لقاء مع المفكر المصري الباحث والمهتم بقضايا بناء السلام والمصالحة المجتمعية

يحاوره د.عبد الله مشنون  يُعد الأستاذ ياسر الغرباوي أحد المفكرين المصريين البارزين عل…