الرئيسية المحاضرات والندوات مصري في قبضة محاربي الصحراء

مصري في قبضة محاربي الصحراء

2 ثانية
0
0
61

ياسر الغرباوي

سافرت إلي عديد من البلدان شرقًا وغربًا، لكني لم أشعر بهذه المشاعر الجميلة والمتدفقة التي خالجت نفسي وروحي؛ إلا عندما وطئت قدمي مطار الزعيم (هواري بومدين) بالجزائر، فكل من لقيني هناك وعرف أنني مصري حرص على الترحيب الحار بي، فإذا كان سائق تاكسي تجده يرفض أخذ الأجرة، وإذا كان نادلًا في الفندق أو المطعم أرشدني إلى أطايب الطعام وأجوده، ولبى لي ما أطلبه منه على أتم وجه، ومن الغرائب أنني ذهبت لزيارة حديقة الحيوان مع زميلي د. محمد المجاهري، وفي أثناء حديثي معه استوقفتنا فتاة عشرينية قائلة: أنت مصري؟ فقلت: نعم، كيف عرفتِ؟ قالت: من لهجتك. ثم بدأت تقص علينا مدى حبها للفن المصري، وحكت لنا تفاصيل زيارتها لمصر وخاصة مدنية الإسماعيلية.

 هذا الجو الغامر من المشاعر؛ جعلني حريصًا على الانتباه لكل ما تقع عليه عيني من أماكن وميادين وشوارع ولافتات، وحدائق ومساجد؛ من أجل مزيد من فهم وتعرُّف هذا الشعب، وزيارتي للجزائر جاءت بدعوة كريمة من المدرسة العليا للعلوم السياسية، لحضور ملتقى (التحولات المجتمعية وعلاقتها بالقرار السياسي في الشرق الأوسط والمنطقة المغاربية) المُنعقد بتاريخ 25 أبريل 2024م، وقد قدمت فيه ورقة عن (دور الدين والتقاليد في حل النزاعات وبناء السلام).

 وبعد انتهاء أعمال المؤتمر طفت في معالم شتى ومزارات عدة بالجزائر، خاصة أن هذه هي الزيارة الأول للجزائر، واقتربت من الأحياء المحيطة بالعاصمة وأطرافها، وحرصت على ركوب المواصلات العامة، فهي ساحة خصبة للاحتكاك بالناس ومعرفتهم، وخاصة من غياب عائق اللغة، فالشعب في عمومه مفتخر بدينه وباللغة العربية على المستوي الرسمي والشعبي.

 وقد سجلت جملة من الانطباعات واللمحات عن هذا البلد وناسه، ورغبت أن أشارك بها مع جمهور العربي الكريم.

أولًا: الزائر للجزائر يدهشه منذ أن يهبط من الطائرة إلى أن تنتهي رحلته أسماء الأماكن والميادين والجامعات، فمعظم أسماء الشوارع والمعالم مرتبط بعالم التضحية والشهداء، فقد مررت بميدان الشهداء، ونزلت في الشارع البشير الإبراهيمي، وزرت مقام الشهيد، ومررت بجدارية المنفيين بوسط العاصمة، وهي عبارة عن صورة منحوتة لحشد من المقاومين الجزائريين وهم يساقون إلى السفينة الفرنسية تمهيدًا لنفيهم، وسوط جلاد من جنود فرنسا يدفعهم للركوب إليها. وحضرت المؤتمر العلمي في مدرج مُسمى باسم أحد الطلاب الشهداء في فترة الاستعمار، وآخر مبنى رأته عيني وأنا في طريق العودة كان يُعرف بمستشفى معطوبي الثورة.

الشاهد مما سبق أن قيمة التضحية هي القيمة المركزية للشعب هناك، فالكل دائم الحديث عنها، وهذا رائع وجميل ومفيد على المستوى الأخلاقي، ولكن عندما عُدت للإحصاءات الدولية الخاصة بمعدلات التنمية والبطالة والناتج القومي في الجزائر، وجدت أن الاستفادة متواضعة من رسوخ قيمة التضحية عند الشعب على مستوى التنمية؛ إذ التضحية والفداء كانت القيمة المركزية في أثناء فترة الاستعمار، وكان لها دورها في الصمود والنصر، ولكن بعد انتهائه كان من الواجب توجيه هذه الطاقة الوجدانية الجبارة نحو المنافسة الحضارية والعمل التنموي باعتبارها معركة لا تقل شراسة عن التحرر من الطغيان الفرنسي، وخاصة أن الجزائر تعتبر أكبر دولة إفريقية مساحة، وتمتلك البترول والغاز الطبيعي والتربة الزراعية والعدد السكاني المناسب لتُقَدِّم تجربة تنموية عالمية.

ثانيًا: لمست ضآلة مستوى العلاقات المصرية الجزائرية مقارنة بالعلاقة الجزائرية الصينية على المستوى الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، على الرغم من الترابط الثقافي والوجداني بين الشعبين، وتقدير الجميع في الجزائر للمساعدات المصرية للثورة الجزائرية ضد فرنسا، وكذلك معرفة المصريين بالدور التاريخي للرئيس الجزائري هواري بومدين في دعمه لعملية إعادة بناء الجيش المصري بعد نكسة 1967م؛ فقد لاحظت في الفندق وفي المطار وفي الطائرة عديد من الصينيين الذين يمثلون الشركات الصينية العاملة في الجزائر، ووجدت العديد من الشباب الجزائري متجه إلى بكين لجلب البضائع الزراعية والطبية، وعندما سألت بعضهم: لماذا لا تذهبون إلى القاهرة؟ كانت إجابتهم: نحن لا نعرف شيئًا عن الشركات المصرية وطبيعة منتجاتها وأسعارها! وهذا أيضًا أحسبه نفس وجهة نظر رجال الأعمال المصريين وعلاقتهم بالسوق الجزائري!

ثالثًا: الجزائر خاضت نضالًا بطوليًّا ضد الاستعمار عسكريًّا، وأيضًا خاضت نخبها الثقافية نضالًا ضد المستعمر، وكان على رأس هؤلاء الأستاذ مالك بن نبي، الغريب والعجيب أنني في رحلتي هذه وفى نقاشي مع الأكاديميين لم أسمع سيرة مالك بن نبي على الإطلاق، وعندما زرت بعض مؤسسات المجتمع المدني مثل (حركة مجتمع السلم)، وجلست مع كوادرها لم أجد أي إشارة أو إحالة له! وظلت هذه الملاحظة تلازمني حتى الآن، وأتمنى من الباحثين الجزائريين أن يفسروا لنا السبب.

رابعًا: وجدت الجزائر بلدًا بالغ التنوع والثراء اللغوي والعرقي والثقافي والمذهبي، فعلى مستوى التنوع المذهبي سنجد المذهب الأباضي له علماؤه وأتباعه في ولاية غرداية، وعلى المستوى العرقي نجد كل من المكون الإفريقي والعربي والأمازيغي متداخل بشكل يكاد يرسم لوحة إنسانية فريدة من التراحم والتعاضد، وعلى مستوى التنوع الجغرافي سنجد المناطق الصحراوية ومناطق الغابات والمناطق الجبلية، ناهيك عن جمال الشواطئ الجزائرية الممتدة على البحر المتوسط قرابة 1600 كليو متر، وعلى الرغم من هذه القدرات إلا أن معدلات السياحة منخفضة بدرجة كبيرة، وهذا كان محلًا لعجبي، فسألت عن الموضوع فقالوا: ثقافة المجتمع الجزائري تتعامل مع السائح على أنه ضيف واجب إكرامه، ولا ينظرون إليه على أنه زبون! ومن ثَمَّ فهو مرحب به ضيفًا في بيوت الجزائريين، خاصة في الأقاليم الداخلية، والتى من النادر أن تجد فيها فنادق للسائحين

انتهى المقال بلمحة عن الكرم الجزائري مع السائحين، وبدأ أيضًا بالكلام عن حفاوة الجزائريين بالمصريين، فهذا شعب كريم مضحي، يُقدر من يقف بجواره وقت الشدائد، ويفتخر بانتمائه العربي والإسلامي والإفريقي، وما زال هذا البلد مُمسكًا بالروح التحريرية ضد الاستعمار، والواجب من الشعوب العربية أن تبادل هذا الشعب الود والتعاون، وأن يسعي الجميع لتحويل هذه الطاقات والقدرات الوجدانية إلى مشاريع اقتصادية وثقافية واجتماعية تعود بالخير على جميع الأحرار.

عرض مقالات ذات صلة
Load More By ياسر الغرباوي
Load More In المحاضرات والندوات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

بامكانك الاطلاع على

في ضيافة عم جرجس

ياسر الغرباوي قادني البحث عن تاريخ بلدتي الحبيبة التي بها مسقط رأسي إلي طرق أبواب معرفية ش…